الصفحـــــــة الرئيـســـــــــة

الأحد، 27 مايو 2012

كائن الحجر.. كائن ثقافي قراءة في (خزانة حجر) للشاعر هيثم عيسى


كائن الحجر.. كائن ثقافي
قراءة في (خزانة حجر) للشاعر هيثم عيسى

نجاح عباس


           مثلما يشير الحجر إلى تركيبة رمزية جماعية حية  ينشغل المشروع الشعري (خزانة حجر)  للشاعر هيثم عيسى الصادر عن دار أزمنة للنشر والتوزيع 2010 بالحجر كونه المثل الأعلى الذي يسمح باكتشاف أكثر أسرارنا خفاء و يقدم متنفسا رمزيا للاضطرابات العاطفية التي يولدها انعدام التوازن أو الخلل الاجتماعي. وربما يقدم الحجر مخزونا من الأشكال الثقافية فيخفف من ألألم بمواجهة التوترات المزمنة.


      تشترك عناوين المشروع بلحمة الحجر فتبدو وهي ترسل شفراتها الثقافية كما لو انها نظام من الإخلاص الشعري يبحث في المعنى الأصلي للحجر . ينقسم المشروع الشعري الى   قسمين " الحجر" و  " الخزانة ".  يبدأ "حجر الدم " بتقديم  "الحجر" على أنه يمتلك آلية مخفية لصناعة الكائن وهي إحدى آليات الثقافة باعتبار أن الثقافة آليات هيمنة فليس لي إلا أن أضع رأسي فإنما أنا حجر ملقى على حجر . و كامتثال لنداء صميم يتتبع " حجر الدم"  تحول إنسان منذور الى حجر ويراقب مأساته الأولى وهي تأخذ شكل القوة .هرع  بن آدم يبحث عن الصخرة التي تقتله و تصنع تمثاله.


وفي " حجر المحك " يأتي السؤال الثقافي عبر محاولة لفهم التغيرات الدرامية التي تعمل على تقويض المجتمعات التقليدية ، المجتمعات التي تصنعها الحرب و تحطمها و تعيد إنتاجها ، المجتمعات التي تعيش قصة فقدانها المستمر ، المجتمعات التي لا ترث ، تأخذ شكل الضحية و حسب ، و نداؤها نداء وطن . تضحية الذين أدركوا أن خيارهم الوحيد هو الحرب .يموتون واحدا واحدا و ينتصرون ,يموتون جميعا من أجل أن تبقى أبواب مدينتهم مغلقة .


       و من فرط البحث عن ذات أخرى يأتي " حجر الشمس" فلا يجد إلا ذاته . إن حجر الشمس يوقظ فينا تلك الصور التي تقود معتقدات الحياة بأكملها . انه برهان على امتلاك المدى حيث صرخته الأولى بعريها الكامل و براءتها الكاملة   و لحظة لا يسأل خائن و لا يسرق الحب .


      أما حجر الزند فينصت إلى المقدرة الاجتماعية و الثقافية لكائن الحجر برغبة الإفلات من المصائر الدائرية التي تجهل إلى أين تمضي ، من الماضي الذي ينبثق في كل شيء و كأنها تعبر بصرامة عن إيديولوجيا الأفراد في تجاوزها للأشكال و كسر رتابة الذاكرة .ان من الحكمة ان تفعل شيئا  تندم عليه فالحرية لا تنحت بأزميل  أعمى .


بينما يسعى( حجر الأم ) الى استبدال التأريخ بحجر من أجل أن لا يفسد مستعينا بستة آلاف عام من الحزن والجمال .


ومن خلال (حجر السليماني ) تصبح أسئلة الثقافة المتنكرة بديلا عن الفراسة فالناقة من الحجر والموسيقى , وفضة الحرية نخلة برأس مقطوع , والبحر مكان أعمى لصناعة الصخور ,ليبدو كائن الحجر كما لو انه يعيش إرادة إنتاجه .


ولعل (حجر الملح) يرصد حرب الأعمى و الأعمى لحظة يفقد الانتصار شكله و تفقد الهزيمة حقيقتها فيعيش المجتمع و الثقافة صراعهما الخالص من دون انتصار أو هزيمة .


أما ( حجر الخطى) فيكشف عن المراوغة التي تعلن عن قوة فالعالم برمته خدعة حرب .الدويُ الذي في جمجمتك و سؤالك البريء و ما بقبضتك من الحقيقة و طفلك الذي يلهث خلفك ..كلها خدعة حرب .


يمضي (حجر الشيخ) بثقافة النوم السحري حيث تستحيل حبات الرز في كفه طيورا بينما كائن الحجر يموت وهو يغني ويغني وهو يموت .


ومن خلال (ثنائية الحاوي والأفعى ) يقدم المشروع الشعري مقولته عن الحرية ويزعم ان كائن الحجر أكثر حرية مما نتوقع وبرهانه الثقافي ان الأفعى في المجابهة المستديمة لا تترد في تقطيع أعماقها بسيف الحاوي وهي تشع وترقص .


مثلما يقودنا (حجر الرحى)من نفق الى نفق برغبة واحدة مثارة ولن تهدأ فليس هناك سوى بريد الحرب والمدفونين حتى الأعناق وليس من خزانة سوى تلك التي تفتح بلسعة النار في محاولة لتصوير موقع سري للحرب تمر من خلاله أكثر الثقافات إنسانيه.


يفصح (حجر الشياطين) عن ثقافة الحمامات القديمة حيث دكة المغتسل في نسيانها وأبديتها وهي تصور كائن الماء ينحني أمام كائن الحجر مهما كان عنيفآ وفي ذات اللحظة يجعل منه جرسا  انسانيآ  متحركا يضج بالحقيقة والسراب ,بالعناد والطيبة ,وبالعطر والحكايات .


ويعلن( حجر الناي) عن آخر الراقصين بالقيود وهو يحكي قصة التمرد مراهنا على كائن الحجر كونه ابن النهر من قطرة الماء التي تشع في قلبه حتى قطرة الشمس .ان كائن الحجر كائن ثقافي لكونه يؤطر بحسب رمزيته الحقيقة العنيدة المتوارثة من جيل الى جيل ..هذا الكائن هو المشهد الراسخ لأفعالنا حيث نجعل من العالم شيئا يمكن تحمله و التعايش معه .


      و لن يكون الجنوب في (رسم الزقورة ) هو الجنوب لولا وجود رموز شعبية مشحونة بالعواطف حيال الصعوبات الاجتماعية المتفشية فيه .ان التنقيب عن الجنوب هو التنقيب عن صنيعة ثقافية لا يمكن إزالتها .


         في  القسم الثاني للمشروع تعكس "الخزانة" كثافة المرجعية الرمزية و تنوعها و تصور أشكال المجتمع على أنها مادة الثقافة ، فعلى الرغم من المفاجآت التي يرسمها "سوق الحجر" فانه يربط بين فوضى الأحداث من جهة و نظام المشاعر من جهة أخرى فالثعابين التي رؤيتها مخيفة يمكن قتلها بالمرايا ، الحجر الذي يطفو على الماء يحذِر من خديعة أخرى  و الحجر الذي تحمله النسور الى أوكارها لتحمي فراخها .


         و من خلال "درس في الحجر" يمكن اعتناق الوهم باعتباره مظهرا يدل على واقعية العالم فثم عينان من حجر لا تكفان عن السؤال ، الدمعة أعظم نصب ،و معلم من حجر نجلس إلى قدميه .


       أما  "ذاكرة الحجار" فمصمَمة لتكون قناعا يكشف أكثر مما يخفي للتعبير عن العنف الخاص به فليس هناك سوى رأس مقطوع يتكلم ، سوى قطرات ندى على نصل بارد ، سوى حلم يقتل من جديد ، ليس هناك سوى وليد الحرب إلى الحرب.


       ان مشروع "خزانة حجر" و هو يتحرك بين الأشكال بحثا عن أشكال أوسع من الوحدة ينتهي إلى تناقضات ذات مغزى يلعب من خلالها " الحجر ألأخير " لعبته العميقة  فيصور المجتمع كما لو أنه الحجارة و الأزميل معا .

       
           


تكست - العدد 17 - هاينريش هاينه بعيني جورج لوكاتش ترجمة ماجد الخطيب


هاينريش هاينه بعيني جورج لوكاتش

الشاعر بين"حمار بلعام" و"ثور فالارس"

ترجمة ماجد الخطيب

الكاتب والمفكر الهنغاري الكبير جورج لوكاتش، حاله حال الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه، يكنّ احترماً وتقديراً كبيرين للشاعر الألماني هاينريش هاينة. وإذا رأى نيتشه في هاينه"مكراً" أهّله لأن يكون فنان اللغة الألمانية الأول، فأن لوكاتش رأى في "سخرية" الشاعر ذروة نضج أدبي وفكري لم يبلغها أي شاعر ألماني.



ففي كتابه المهم" واقعيو الأدب الألماني في القرن التاسع عشر" يخصص لوكاتش نحو 60 صفحة للحديث عن أدب هاينه وتأثيره الكبير على الأدب الأوربي عموماً، والألماني خصوصاً، في المرحلة الانتقالية بين عصري الأدب التقليدي والحديث في أربعينات القرن التاسع عشر. وفي هذا الفصل الذي أكمله لوكاتش عام 1935(1) يهاجم الكاتب الشاعر هاينة بلا رحمة بسبب هشاشة موقفه السياسي والشخصي في تلك الحقبة، وتردده في الانتقال تماما إلى صفوف"الثورة البروليتارية"، لكنه يطري بلا حدود شاعرية هاينة ورهافة حسه وغنائيته، و يقِّيم عالياً موقفه النقدي من الشعر الكلاسيكي والحركة الرومانسية، ويرى في"سخريته" أساس المرحلة الانتقالية التي قادها هاينه وأدت إلى انطلاقة مرحلة الأدب الحديث.


يصف هاينه نفسه في"الاعترافات" على أنه آخر ملوك الشعراء الرومانسيين الذي تخلى عن تاجه وصولجانه عن وعي كي يعبّد الطريق أمام الأدب الحديث. يقول: معي أغلقت أبواب المدرسة الشعرية الألمانية الكلاسيكية، وفتحت في نفس اللحظة أبواب المدرسة الشعرية الألمانية الحديثة. وكتب لوكاتش أن وصف هاينه لنفسه كجسر بين العوالم الشعرية المختلفة صحيح، إلا أن المدرسة الألمانية الحديثة جنحت في طريق آخر لم يسبر الشاعر غوره في تلك المرحلة. فالأدب الألماني الحديث، حسب لوكاتش، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي بعد وفاة هاينه، وقع في فخ "المبالغة بالتجريد"، راودته "الكثير من الأوهام"، وافتقد إلى" النقد الملموس"، وهي ذات التهم التي وجهها هاينة إلى الحركة الرومانسية المتأخرة.
لا يمكن فصل تطور ونضج الشاعر هاينة الفكري عن مجرى التطورات التي شهدها التاريخ الألماني في تلك المرحلة الانتقالية. ولهذا نجد هاينه يقول" يبدو أن  نبوءتي القديمة عن الفترة الكلاسيكية، كمرحلة بدأت في مهد غوته، وستنتهي في قبره، قد تحققت. فالفن الحالي يجب أن يزول لأنه تجذر في الحكومات العاجزة القديمة وفي الماضي الامبراطوري الروماني"المقدس"(....) لأنه يتعارض، بكل بقاياه القديمة، مع الواقع. ولهذا فقد كرس هاينه أدبه، شعراً ونثراً، للنضال ضد المرحلة القديمة، وبالضد من الأدب الكلاسيكي، وضد الميراث الروماني أيضاً.




انتقد هاينه "الرجعية الرومانسية" في أربعينيات القرن التاسع عشر وكتب أن تأليههم للتاريخ الألماني هو تأليه لتاريخ بائس وعبودي، وان إطراءهم للعصور والوسطى والكنيسة الكاثوليكية، لا يعني سوى البحث عن الأدب البديل في أروقة الفاتيكان. وكان من الأوائل الذين فسروا مبدأ "غريزة وحدة الوجود" الرومانسية على أنه نزوع خفي إلى الكنيسة الكاثوليكية الأم، وتوق قومي ظاهر إلى وحدة الوجود الألماني القديمة. هاجم هاينه "الرومانية الساخرة" أيضاً واتهمها بالمراوحة في مكانها. صنع من "سخريته"، مبدءاً لتحطيم أوهام الناس عن الواقع المنسجم الذي تدعيه الكنيسة والسلطات الاقطاعية للعالم، بل بلغ في تهكميته مبلغ "الكلبية" بسبب رغبته في التعبير عن تمزق الواقع، وبهدف تحطيم كل بقايا العصور القديمة التي تدعي انسجام الإنسان مع نفسه ومع هذا الكون.
يقول فريدريش أنجلز" يرفع هاينه حماس المواطن عن قصد كي يعيده  بعد ذلك إلى حضيض الواقع مجدداً. ولهذا فأن سخرية هاينه تثير فيه شعوراً بالـ"غضب"، في حين تبعث سخرية الشعراء الآخرين(الرومانسيين) فيه شعوراً بالاطمئنان وتبقيه أسير أوهامه.



يخاطب هاينه شعراء الرومانسية الاعتذارية:




انفخ، وبوِّق وأرعد يومياً،
إلى أن يزول كل إزعاج-
انشد بهذا الاتجاه فقط،
ولكن ابق شعرك،
أكثر ما يكون عمومية!



تخطت سخرية هاينه سخرية الرومانسيين التقليديين، وأضفت عليها مبدأ التحرير من الوهم، إلا أنها، وعلى أية حال، نبعت من الحركة الرومانسية ذاتها. وكان اوغوست فيلهلم شليغل(1767-1845)(2)، أحد مؤسسي الحركة الرومانسية الألمانية، قد عرف"السخرية" على أنها الانحلال الذاتي للمثاليات"، وكتب كارل فيلهلم فيردناند زولغر(1780-1819) (3)أنها "عدمية الفكرة نفسها"، في حين اعتبر جورج لوكاتش سخرية هاينة "عقيدة تحرير من الوهم" ناجمة عن "الذاتية القصوى" التي وضعت الشاعر على قمة التحولات التي جرت في المرحلة الأدبية"الوسيطة"التي سماها الشاعر نفسه بالمرحلة الانتقالية.



فشكل هاينه الشعري، حسب تقدير لوكاتش، هو"الذاتية البالغة"، أو القصوى، التي تعبر عن حركة المتناقضات في عقل الشاعر"الأنا". وتكتسب هذه التناقضات حيويتها، وتتفاعل مع بعضها، كما تتحرك وتتفاعل في ذهن الشاعر.
في قضية "السخرية" التي ميزت هاينه عن معاصريه من الأدباء، وخصوصاً عن الرومانسيين، بدا أن الشعراء بحاجة إلى نهيق"حمار بلعام" كي يستيقظوا من سباتهم الطويل. فقد كانت الحقيقة أمامهم، لا يسترها رب ولا ملاك، لكن عيونهم بقيت معصو بعصّابة كنيستهم الكاثوليكية، وتوقهم إلى الماضي الألماني"العظيم"، وتشبثهم بالحكايات الخيالية والأغاني الشعبية. وقصة بلعام تكشف أن حماراً يمكن أن يكون أذكى من نبي يعّول عليه الرب في كسب الناس إلى الإيمان.
وبلعام هذا، وحماره الناطق، نبي ورد ذكره في كتاب العهد القديم. أراد بلعام التوجه على حماره إلى شعب إسرائيل ليوجه كلاماً جارحاً لهم. وحينما عرف الرب بنوايا النبي أرسل ملاكاً ليوقفه عند حده. كان الملاك يقطع طريق الحمار دون أن يراه بلعام، يستدير الحمار على عقبيه ويتلقى بالتالي لعنات وضربات النبي. تكرر المشهد عدة مرات وشبع الحمار ضرباً، وهنا منّ الله عليه بنعمة الكلام فنطق الحمار وعاتب النبي على شدته وعماه، وعندها فقط فهم بلعام أن الله يريد أن يردعه عن انتقاد بني اسرائيل.




وإذا كانت سخرية هاينه اللاذعة عقيدة الحديث في أدب المرحلة الانتقالية، والمرحلة اللاحقة، وسبب نقمة الدولة البروسية عليه، فأن تأسيس القصيدة الحديثة على حكم التناقضات الجارية في هذا العالم، كان مولد الأدب الألماني الحديث في تلك الفترة. ويعبر لوكاتش عن قناعته بأن الشكل الخاص الذي ابتكره هاينه ليحرك فيه هذه التناقضات، كان سر نجاحه الشعري وتحوله في أربعينيات القرن التاسع عشر إلى أكثر الشعراء الأوربيين شعبية.
إن كشف الغطاء عن التناقض ليس قضية فكرية، كما يقول هيغل، لكن تصوير الأجواء التي تتحرك فيها هذه التناقضات، هي القضية في واقع الأمر. وكل من هاينريش هاينه واونوريه دي بلزاك توصلا إلى شكل خاص بكل منهما تتحرك فيهما التناقضات بحرية حسب رأي لوكاتش. والأخير يرى أن بلزاك آخر الشعراء الأوربيين، من ذوي الأهمية العالمية، الذين عاصروا هاينه وكن كل منهما للآخر احتراماً خاصاً. ومع هذا الشكل الابداعي انحسر الشكل القديم"الاعتذاري" وما عاد بإمكان الشكل القديم تجاوز الشكل النقدي الجديد. مع ملاحظة أن لوكاتش يقول أنه اتى على ذكر بلزاك فقط للإشارة إلى مكانته في تطور الأدب الأوربي. إذ ظهر هاينه وبلزاك من رحم الرومانسية في عشرينيات القرن التاسع عشر، استقى كل منهما الأهم والأجمل من الميراث الرومانسي، وتجاوز كلاهما الرومانسية. اكتفى بلزاك بعرض حركة المتناقضات في الواقع، لكن هاينه منحها أعمق حركة ممكنة بالعلاقة مع حركة المتناقضات في المجتمع.





تغفو الغابة، والنهر ينام بإطمئنان،
مغرق بضوء القمر الناعم؛
يعلو فجأة أزيز. هل كانت رصاصة؟
ربما أنه صديق أعدم؟




المهم في هذا الشكل النقدي الجديد هو أن التناقضات تبدو فيه كتناقضات تناحرية وليست منسجمة، أو متناغمة، كما يراها "الاعتذاريون". حطم هاينه شعرياً كل مما كان يبدو في انسجام زائف، وكتب شعراً يبحث عن الجمالية في حركة التناقضات، ويسعى إلى الحديث من خلال التعبير عن هذا التناقض  بلغة الألم والحزن والمشاكسة التي تنبثق بالضرورة خلال"المرحلة الانتقالية" وتحطم الأوهام السائدة والانسجام الظاهري الزائف.



صوّر الكاتب الروائي المعروف فريدريش هيبل(4)، الذي عاصر هاينه، عالم التناقضات في شعر هاينه كالآتي: خلق هاينه شكلاً في الشعر يحول أكثر النبرات يأسا، في تعبيرها عن هذا العالم المشحون بالتناقض، إلى همسات موسيقية مؤثرة. وتذكرنا مجموعة أغانيه  بخوار ثور فالارس النحاسي الذي يجعل صرخات العبيد، الذين يجري شيّهم أحياء في جوفه، منسجمة مع صيحات البهجة التي يطلقها الملك. هنا يستوي المعذَّب والمعذِّب في شخص واحد.




و فالارس(570-550 قبل المسيح) في التاريخ الهليني القديم هو ملك اكرغاس الواقعة اليوم في صقلية الايطالية. اشتهر كطاغية دموي وسادي استغل احتفالات بناء معبد سيريس(إلهة الخصب) كي يرتكب مجزرة بحق شعبه استخدم فيها المرتزقة والمجرمين.



وثور فالارس عبارة عن ثور كبير نحاسي، من أعمال الفنان القديم بيريليس، كان فالارس يحبس خصمه في جوفه، ثم يشعل النار تحت الثور كي يجري شيّ الإنسان على نار هادئة. ويقال أن الصرخات التي يطلقها المحكوم بالشيّ كانت تنطلق من منخري الثور مثل الخوار، وكان الملك يطلق خوار لذة، كالذي يطلقه الثور عند الجماع، وهو يستمتع بشيّ ضحيته. والمفارقة التاريخية في الأمر هي أن الفنان بيريليس نفسه كان أول ضحايا حفلات الشي في قصر الملك فالارس.
تفرق حيوية حركة المتناقضات عند هاينه شعره عن الشعر الذي سبقه، وتعبر عن رؤيته للثورة كمخلِّص وحيد للناس من عذابات الواقع القائم على التناقض. وكما برز ذلك أكثر خلال فترة مرضه فهذه التناقضات عند هاينة غير قابلة للحل، لكنها تبقى عناصر سلبية دافعة بشكل مستمر إلى التمرد. هي عناصر سلبية متفائلة، حسب رأي لوكاتش، لا تنسجم مع تشاؤم التناقضات"الاعتذارية" للرومانسيين؛ بل أنها صيحة ضد" مصير الإنسان الأبدي غير القابل للتغيير".




المواقع التي فقدت في حروب التحرير،
أتمسك بها مخلصاً منذ ثلاثين عاماً؛
أحارب بلا أمل، في أن أنتصر،
وأعرف أنني لن أعود سليماً إلى الوطن.




في تعامل هاينه مع الاسلوبين الدرامي والملحمي يرى لوكاتش عن حق أن هاينه آثر الابتعاد عن هذا النمط من الكتابة، رغم كتابته لمأساتين في مرحلة شبابه، لأسباب اجتماعية عميقة. لم يتجنب الشاعر الاسلوبين بسبب عدم قدرته على تصوير الإنسان الحي وحياته، وإنما لأسباب تتعلق بفكره وقضيته. كان يقدر الملحمة والدراما، ويحترم صنّاعها، لكنه كان يحاول تجنب واقعيتها بالمعنى التقليدي.





كان اونوريه دي بلزاك في فرنسا، وتشارلس ديكنز في انجلترة، يكتبان الدراما والملاحم، لكنهما اكتفيا، إلى حد ما، بتصوير التناقضات الاجتماعية تصويراً واقعياً. واهتم غيره من الكتاب الألمان في الكتابة بهذه الطريقة إلا أنهم بقوا أسرى الواقع الألماني المزري، في حين تعذرت على هاينة الكتابة بهذا الاسلوب الذي وصفه بالـ"مفارقة التاريخية".





لم يكن ذلك من هاينه ضعفاً شعرياً، أو هوساً شخصياً، وإنما أن شكله الأدبي الجديد،  الساخر، لا ينسجم مع الكتابة  بهذين الاسلوبين، ولا مع أهدافه الاجتماعية. وحينما كتب"أتا ترول" و" ألمانيا، حكاية خيالية شتوية" استخدم السخرية البالغة للتعبير عن التناقضات التي يتناولها بالتحليل، واستخدم شكل"الذاتية القصوى" في كتابة "صور رحلة". بمعنى آخر انه استخدم الشكل الألماني الوحيد الممكن للتعبير عن التناقضات الاجتماعية بالشعر.




فهم هاينه أيضاً الضرورة التاريخية لهذا التطور في الحركة الشعرية وفي الحركة الأدبية الألمانية ككل. وكتب لهذا: "الفلسفة والشعر هما البراعم الأساسية للروح الألمانية، لكن زمن التفتح هذا قد انتهى، وانتهى معه كامل"الهدوء الشعري" الذي ميز الأدب الألماني". واعتبر لوكاتش الدراما والملحمة من أشكال الأدب"المخصية" التي يرفضهاهاينه في إطار رفضه للقديم والمهادن. فهو كشاعر"منفذ وصية الشعر الرومانسي الألماني، والشعر الكلاسيكي"، ويتفق هنا في موقفه من الشعر مع موقف كارل ماركس الفلسفي القائل "إن الغاء الفلسفة غير ممكن دون تحقيقها، لكن تحقيقها أيضاً غير ممكن دون الغائها". ورغم مسعى هاينه لتحطيم أشكال الشعر الألمانية القديمة بالسخرية، ورغم عرضه التحريضي للتناقضات في الحياة، لم يقع في فخ التطرف الأدبي في ذلك الزمان، فلم ينقلب رومانسياً فوضوياً يريد تحطيم الشعر الألماني ككل، و لم ينمسخ  شاعراً "اعتذارياً" سلبياً يمجد الشعر التقليدي.




انبثق شعره عضوياً من الشعر الرومانسي، لكنه أعلن القطيعة الكاملة مع كل ما هو سطحي ومبتذل في الإرث الأدبي الرومانسي. كان نهوض الحركة الرومانسية رد فعل على الاحتلال البونابرتي والاضطهاد الفرنسي، وبالتالي تعبيراً عن الروح القومية الألمانية المقهورة، وهو ما أفعم كامل أدب تلك المرحلة بالمشاعر القومية. لكن هذه الحركة، التي كانت تقدمية يوماً، أصبحت رجعية مع مرور الوقت وما عادت "أناها" الظاهرة وسخريتها الاعتذارية تستجيب لتطلعات شاعر وناقد ومؤرخ وفيلسوف مثل هاينه.



حسب رأي لوكاتش كان هاينه يصور العالم في رحلته الشعرية بطريقة الديالكتيك التراجيدي الساخر، مستخدماً الصور الشعرية والتناقضات وكل ما هو جميل في متناول يده، بينما كان ماركس يحاول تفسير التاريخ على أسس الديالكتيك المادي. وكان هاينه معرضاً دائما إلى الوقوع في خطر تحول مشاعره الحقيقية والعميقة إلى قصائد عاطفية ومتكلفة، وإلى قصائد سياسية مؤدلجة، لكنه كان واعياً تماماً لهذا الخطر، وكان يتجاوزه دائما بالسخرية اللاذعة، وهي سخرية في محلها أولاً، وعميقة في معناها ثانياً.



لا يتجنب لوكاتش في كتابه ما أثير من جدل حول موقف هاينه من الدين، وخصوصاً في أيام مرضه الأخيرة التي كان يتمنى فيها الموت خلاصاً من عذاباته. ويرى أن موقف هاينه من الدين إنما ينطلق من موقف معلمه هيغل، لكنه يتجاوز سيد المعرفة الألمانية آنذاك ليقف موقفاً معادياً وصريحاً من الدين ككل. ولم يكن ذلك ضد الديانة اليهودية التي نشأ عليها فحسب، وإنما ضد الديانة المسيحية التي أنقلب إليها أيضا.






كان هاينه ينظر إلى تاريخ العالم ككل كتاريخ للنضال بين الروحانية والحسيّة، كصراع بين الفلسفة والدين، وبالتالي كصراع القديم مع الجديد. ورفض الشاعر قطعيا، في كتاباته بعد 1848، التعليقات التي تحدثت عن عودته إلى الدين و"عودته" الأخيرة إلى الهدى. وجسد هذا الاحتجاج في مقدمته لكتاب"رومانسيرو" رافضاً التحليلات التي تحدثت عن عودته إلى أحضان الكنيسة، أو إلى المعبد اليهودي، بتأثير مرضه ويأسه وخوفه من الموت.




كتب هاينة في "الاعترافات": أنا رجل مسكين، ما عاد سليماً، من الناحية الصحية، بأية حال، أو بالحقيقة أنه مريض جداً. ولكان فضلاً كبيراً عليّ لو وجد شخص ما في السماء يعنى بي، ويستمع إلى حديثي المكرور عن مبلغ آلامي، وخصوصاً في منتصف الليل، حينما تخلد ماتيلده إلى الفراش".(5)





وكان أكثر وضوحاً و"كلبية" كعادته في موقفه، وهو في شدة المرض، حينما استقبل صديقيه أدولف شتار و فاني ليفالد. إذ نقل الأخيران لاحقا عن هاينه أنه قال: لا تفكروا أني بلا دين. لو أن شيئا من الرماد نثر على جروحي الأليمة المحرقة، وتخلصت بعدها من الآلام، ألا يستوجب ذلك القول أن له نفس المخدِّر للدين؟ هناك علاقة بين الأفيون والدين، فكلاهما يجعلان الإنسان يحلم(...) وحينما أعجز عن تحمل آلامي أتعاطى المورفين، وعندما أعجز عن القضاء على أعدائي اتركهم لله"؟ ثم يبتسم ويضيف: ولكنني على أية حال افضل الاعتماد على نفسي في توفير اعالتي".(6)




وينقل الفرديد مايسنر عن صديقه هاينه قوله أنه يتمنى لو أنه يستطيع المشي على عكازين كي يستطيع زيارة الكنيسة كأي متدين صالح. يسأل مايسنر مستغرباً: إلى الكنيسة؟ فيجيب هاينة" طبعاً إلى الكنيسة، إلى أين يذهب الإنسان المقعد إذا لم يكن ذهابه الى الكنيسة. بدون عكازين كنت سأتجول في الشوارع الجميلة وأرقص في الـ"بال مابيل" (7). يرد مايسنر: وتسمي هذا تدينا؟ يجيب هاينه: نعم، نعم ديانة تجديفية!(8)




ما أكثر حسدي لهذا الحظ،
أتمرغ لسنوات سبع
بالعذابات المريرة على الأرض
وأعجز عن الممات.

أه يا إلهي، اختصر عذابي
وعجل في اللحد منامي،
سيد العارفين أنت،
وتعرف أني لا أتقن فن الشهادة.

آه، رحمتك يا إلهي، وصفحك،
 جريرتك- وأغفر لي دهشتي-،
أنك نفخت الروح بأعذب الشعراء،
ثم سلبته حب الحياة.

بلّد الألم فيّ روحي المرحة
وألقاني في غمرة الميلانكوليا،
وإن لم ينقطع هذا المزاح،
فسأنتهي كاثوليكياً صالحاً.

أعول في أذنيك إذن!!
كبقية المسيحيين الطيبين_
أه يا للبؤس!!
أنت تفرط بأعذب الساخرين.
(من قصيدة مزمور)








(1)      أنهى لوكاتش الكتاب عام 1950 بعنوانDeutsche Realisten Des 19.jahrhunderts. واعتمدنا هنا على النسخة الأصلية الصادرة دار"أوفباو فيرلاغ" البرلينية سنة 1952.
(2)           August Wilhelm von Schlegel    من مواليد بون(1767-1845)
كاتب ومؤرخ أدبي ومترجم وعالم هنديات، يعتبر من مؤسسي الحركة الرومانسية الألمانية.
(3)           Karl Wilhelm Ferdinand Solger( 1780-1819)
عالم لغات و فيلسوف ألماني يحتسب على المدرسة الفلسفية المثالية الألمانية.

(4)           Friedrich Hebbel(1813-1863)

كاتب روائي ألماني من القرن التاسع عشر. من أهم رواياته "ماريا ماغدالينا" 1843 و" هيرودوس واناماريا" 1848.

(5)           انظر كتاب لوكاتش في (1) ص 118

(6)           نفس المصدر ونفس الصفحة

(7)           Bal Mabille دار للرقص والموسيقى بباريس.

(8)           نفس المصدر في (1) ص 119

 

 

 


 


تكست العدد 17 - وليد هرمز يزرع وردة الكِلدان في غبار الذاكرة بقلم سلام صادق

وليد هرمز يزرع وردة الكِلدان في غبار الذاكرة     
كتـب سلام  صا د ق **                           

   وهكذا اعود للنميمة الناعمة او للاطراء الشفيف ، اعني للنقد كما هو حاله عندنا على الاعم الاغلب ، أعود الآن الى اهتزازشفيف من نوع آخر اهتزاز يزيح صدأ التاريخ بلا رنين أو قرقعة ، بعد اهتزاز اول هو اهتزاز المكان عندما اغرقني بانثيالات ذاكرته البصرية الشاعر باسم فرات ذات مرة فكتبت عن المكان في اشعاره ، وهنا حيث يتوالد اهتزاز من نوع آخر ،هو اهتزاز الزمان، استشفه الآن حين ادخل مملكة الشاعر وليد هرمز، هذا الشاعر الذي كصديق آخر لي بقي يكتب ويكتب ويكتب ويخفي عنا مايكتب لسنين طوال ( هو ذلك التشكيلي المعتكف بلحيته المدببة وعينيه الثاقبتين اللاصفتين والذي امام الحاحنا يكتفي بقراءة سطر أو سطرين وحين نطالبه بالمزيد تحمر وجنتاه خجلاً ويتوقف ) ومثله في الهّم بقي وليد هرمز بالتاكيد يمارس فعل الكتابة سنينا طويلة في الخفاء، حتى صدر له( نواقيس الكلدان عام 2007) و( سالميتي عام 2009). ففي اغلب قصائدة المنبثة بين ثنايا هاتين المجموعتين الشعريتين تتمظهر العلاقة واضحة بين ماهو حسي وماهو روحاني تلوح في أعلى تجلياتها ودفقها على شكل كلام مصوغ بعناية فائقة وهو ينساب منزلقاً كما سمكة في ماء ، منزلقة في ضباب التاريخ او في                                                                  سراب الحكايات ، بلا حراشف ولا أصداف :                                                                                                    
بين صمتك ودهشتي
برزخ نجم                                                                                                                    انفعالك نضج سفرجل
عند منعطف الوداع                                                                                                  يا انتِ التي اجمع لها                                                                                                وميض دمعي ..                                                                                                      
فوليد هرمز يحاول اخراج الشعر من ازمنته الصامته ويجعله يعتنق البوح الشفيف فتتحول لديه القصيدة الى سيرة ملحمية تلهث وراء فردوس مفقود وزمن لايمكن استعادته الا بالشعر ومن خلال الشعر فقط .. وليد الذي يطور تجربته الشعرية متكئا على استعارة الزمن او استعادته من اشداق الغفلة جاعلا من تجربته الذاتية وعلاقته بهذا الزمن المنقضي بؤرة مركزية تضيء لتسقط اشعاعها على ما انقضى فتتحول الفكرة الى ارض مادية تاريخية تتمرأى في حاضر الذاكرة:                      
                                                                      
 كلانا بأنامل مخدرة بوجع اليانسون             
 نمسد الغبار المتهالك على ختم الاقفال                                                                                      
قرأت ذات مرة لشاعر ايطالي لايحضرني اسمه ، كان يحب الله ويكره البابا ولم يقرأ أو يعرف عنه وليد هرمز شيئا بالتأكيد. وقرأت لوليد شيئاً مشابهاً لم تكن فيه لديه كلمات كافية لعكس مايراه بقلبه ولما يريد أن يتناوله علانية فيغرق في روحانية صامتة على شكل همس كتوم:                                                                                                     
أيها الزيت ، الرب                                                                                  
أيها الجريء ، الشهي                                                                            
اتبعني                                                                                             
برهانك شقاء                                                                                      
فاتبعني                                                                                             
 حيثُ لمْ تخيِّرَني
 مرتطما باقداري الخمسين
 مرتعشا كالايل الاسمر
 أتلمس شدوخ جبيني المجروح بالنرجس اخترت عثراتي
 عارية ، تصهل ورائي .
 هذا الهمس هو الجوهر في هذا الإهتزاز المتولد في وجدانه منتقلاً باهتزاز متعاقب على شكل هالات متلاحقة من نور إلى وجدان المتلقي ، منبعثاً من عمق جراحات التأريخ بأسماء وأماكن وأحداث لشعوب سادت وملأت الارض عنفوانا وبسالة وهي على وشك أن تباد الان:
انا الاعمى
أدوّن بوح المدائح وأمضي
أدون وصايا جدي هرمس الكلدي
وأمضي
مدادي خلاصة المرارة
وعذابي  أبيض . 

 .
قصيدة وليد تأريخ الروح حين لاتعتمد الزمن الفيزياوي ففي أعمق أعماق اللغة يستقر الزمن على شكل احساس موار بالحياة دون قسر أو تحديد او اكراه ،معقماً ، نقياً ، مبضوعا بعناية جراح فائق ، نازفا ببساطة تقود إلى جمال يكمن في غبطة مخلوقاته وهو يتبتل خاشعاً أمام رهافة بوحها بدءاً من آلهته وملوكه ، مدنه وممالكه ، وانتهاء بأبيه:
هرمسُ ، يا أمير نبيذ القلب المعتق
أميرنا الشقي ، اُنظر
نجوم الغبطة تغطي فجر كِلدة 
دلنا على حدائق أسلافك
أيها الشفيع .

اما في مجموعته الشعرية الثانية :  سالميتي ( وسالميتي تسمية اكدية تطلق على البصرة )  فتعيدنا لغته الى اشتغاله عليها بكثافة منسجما مع مقولة سابقة تفيد بان القصيدة في جوهرها انما هي إشكال لغوي ، لذا نلمس جهدا قاسيا بذله الشاعر لتغريب لغته او تقعيرها احيانا فيما يستوجب العودة الى مفاهيم ومعاجم والغاز لغوية لاتتوافق مع مرحلة كتابتها زمنيا وبيئويا كما في :
كلما حكّ حجر ( الباذزهر ) عضلات الكين بعضلات 
الفياشل 
استيقظت نبال الدغدغات تدب في البدن .
أو
زجمٌ مذهولٌ من شهوة التفاح
يمامٌ مسلطن برغوة اليانسون 
نُحامٍ جسورٍ برشاقته
هدهدٌ نرجسي بقنزعتهِ .
 بينما في نصوصه الاخرى نلمس وبوضوح محاولة ارتقائه بلغته الى مستوى المماشاة الزمنية واكتناه لغة الحياة اليومية او مايعادلها كاداة لبناء معماره الشعري بلغة منسابة رغم انها محتقنة بكثافة الاحاسيس والدلالات ، وعلى الرغم من هذا كله فانه حتى لو تقصد في تضمين كتابته كلاما لايفهمه الا القليل ، فانه دوما يحاول ومن خلال ذلك التغريب الذي يعتمده ، ابتكار رموزه الخاصة  عبر رؤيته الشعرية الخاصة ، الواسعة  والمنفتحة التي لاتنغلق على لغته تلك او تضيق ذرعا بها بأية حال من الاحوال:
لكن الشاعر غفا فجأةً
غفا النسرُ
غفت الاسلحة بيد الاطفال
غفت المومس العمياء في المبغى
غفا الهراطقة في المعبد الغريق 
غفا المطر في انشودتهِ
غفا حفارو القبور في ام البروم
غفا المسيح في جيكور  
غفت وفيقة على الصليب
غفا هومير الاعمى في دار جدي
غفا جدي الكِلدي على طمي بويب
غفا لوركا في منزل الاقنان 
............................
غفوا كلهم في منفاي
وانا في قيلولتي ارتجف .
في كل قصيدة من قصائده يحاول وليد وضع بداية مستأنفة وضخ دفقة دم رهيفة في معايشاته دون اهمال حبل السرة الذي يشدها إلى رحم التأريخ الكلداني ، فقصائده تتنفس الحضور التام رغم الحيز الضيق المتاح لها ، كونه حضوراً مدعماً بتجارب ومعايشات عريضة ماضية ، نصوصه تلوح وكأنها بدهية أما قصيدته فتتحرك في منطقة حدودية وعرة بين الحضور الطاغي والبداهة من جانب وبين العوارض المتشبحة والمكفنة بغبار التأريخ المتراكم: 
فلأركع لك على ركبتيّ الراجفتين امام مذبحك الحجري
مذبحك المصقول بحجر خصية ابليس
أنثرهُ كي أطرد من انذروني ، أن اُسقط ( لارسا)من نشيدي الناقص
أطردهم بهدوء ، لاهندس لنشيد إنشادي الرابع
ظهيرة أربعاء المشيئة ..
فوليد هرمز في قصائده يسترضي التاريخ جمالياً لكي يبعثه حياً ناطقاً ، وحتى عندما يتناول المرأة والمنفى فهما عنده آتيان من عمق أعماق التأريخ ناصعين وكأنه يستعيدهما للتو حاملين جمالهما السرمدي معجوناً بسحنة هذا التاريخ وأبهته الموشحة تلابيبها بنواقيس الكلدان وقفاطينهم المذهبة :
هي فداحة منفى ، بلا مدى
فداحة قرصانٍ أبله
بلا مقايضات رميت غنائمي 
للغرباء منذ قرون
على شطآن الاُبلة.
العبور من مضمون إلى آخر داخل قصيدته يتم بشكل مطاوع ومرن وبدون سحب حدود ناتئة وخادشة وبهذا تذوب المضامين والصور المختلفة مع بعضها إلى كلية واحدة يشملها طعم خاص فيوحدها على اختلاف اشكالها وإيحاءاتها ودلالاتها وكأن ما مقحم عليها من عناوين جانبية لامبرر له البتة .
يضع وليد هرمز مناديله الشفافة على نهارات التأريخ دون ان تكون حجبا أو كهانات ويخلع عنه معطفه المشتعل ثلجاً اسكندنافيا متدفئاً برنين التأريخ منبعثا من نواقيس الكلدان ومتدفئاً بجمر مباخرهم وبدمهم الفوار في كنائس العراق:
.تعال ياسليل قلاع الكلد ، تعال
يا ابن لوعتي ، تعال
أفتح لك خزانة غوايتي 
أسمعني سهو غزلك 
المدعوك بلوز الشمال 
بملح دموع صبايا الكِلد 
خضبهُ  بخمرة الشهوة .
في قصائد وليد تجارب حياتية ناجزة لكنها من النوع الذي يتطامن حتى كانه يعاش ثانية ، فهي تجارب متقنة التشكل ولذا فهي بهذه الصفة قد تركت آثارها وبصماتها على معظم قصائده خاصة في مضمون الموت والاغتراب الذين غالبا مايذكرانا كما قلنا في البدء بهذا( الإهتزاز الشفيف الذي يبعث هزته في الروح) رغم أن المادة الشعرية لديه تعطي انطباعاً عن مساحة واسعة منفلتة غير أنها محكومة دوما بإحالات من الإبهار والمفاجئة تتمظهر في ثنايا عديدة في قصائده المتوازنة والمصفاة بعناية بعد زمن اختمار طويل كما هو النبيذ المعتق:
ومَنْ سواي السائر على الجمر
السائر بخفٍ مثقوب من جلد الديناصورات 
في قدمي نارٌ تهيج ماءً يؤتمنُ على مطري
في فمي سؤالها المر :
- ايكفيك ثلاثون نأيا؟
-ايكفيك ثلاثون جنونا؟
-ثلاثون توبة عرت خطاياك الجسورة
يحاول وليد بتناوله للعابر واليومي ان يضفي عليه روحا ملحمية منبعثة من قلب التاريخ ونابضة بنبضه وبمقاطع شعرية قصيرة محتشدة  ومضمخة بعطر التاريخ حتى يصبح كسارق النار يحظى بها من كف التاريخ ليعرضها لنا بالعدد القليل من الكلمات ، ودون الحاجة الى ايقاعات ملحمية قد تضفي على النصوص سردية غير ملزمة، بسبر اغوار الاشياء والوقائع وتعيين تفاصيلها المعادة ، وعلى العكس فوليد يحيلنا الى حنين غامض وميلانكوليا تحثنا على المتابعة في ظل تلقائية وأسلبة فنية تتماهى مع جلجامشية معاصرة ، دون ان تطأ حدود الملحمية بشروطها كما اسلفت ، واذا اردنا ان نكون اكثر دقة نقول انها تمتح فقط من روح ملحمية غير مبذرة بلغتها او حماستها  :  
أنا الاعمى
أدوّن بوح المدائح 
وأمضي
أدوّن وصايا جدي هرمس الكِلدي
وأمضي
أنا الاعمى 
دليلي غانية اور
سيدة المعشوقات
أنخيدوانا
ربة النواح وفحولة البخور
أنا الاعمى
دليلي خطيئة المعمدان يهيا يوهانا 
وجسارة سالومي 
شدت المئزر الكتان على خصرها ومالت  .. 
 واذا كنّا قد الفنا في أغلب الكتابات الشعرية المعاصرة بان الحاضر والمستقبل يبدوان كالحلم الشفيف بالنسبة للكثيرين من الكتّاب والشعراء ، فان هذا الامر معكوس تماما عند وليد هرمز حيث دراما الحاضر المأساوي تجعل الماضي لديه هو مايبدو حلميا بشكل لايضاهى ، ويتضاعف هذا الاحساس بجعله ( اي الماضي) نقيضا زمنيا لحاضر متآكلٍ ومهتريء ودون الانكفاء اليه ( اعني الماضي) وانما بتوظيفه آنياً ، وهذا نابع بالتاكيد من اغتراب الشاعر روحيا وحسيا حيث تتراكم الصور الاليفة وتتزاحم الذكريات بتلافيف ذاكرته لدرجة يصبح معها اللامحسوس  وكأنه موجود وكائن ومتجسد ، بينما هو في حقيقة الامر مجرد روائح واصوات ومشاهد تكدست في ذاكرة الشاعر :
سأحمل افلاكي السبعة
اطوف بشعلة القرميد المدعوك
ببرق ندامى الكلد
ارضع من حليب لوزهم
ونبيذ فاكهتهم
انا انشودة اساطيرهم
عراقة مدائحهم
تُرس رعاة ممالكهم
قرص قربانهم الابيض
قيافة مسالكهم
نصفي منهم ، ونصفهم مني
زعفران عنفوانهم يسري في كبدي
عنقود صرتي معقودٌ بخيط وترهم
وصيتي مدونة بحبر دمعهم
رفيف نفسي بخارٌ
من ريحان نعمتهم .
الخلاصة ، فاذا كانت ( نواقيس الكلدان ) مجموعة شعرية تكتنه الدلالية الزمانية والتاريخانية  بابعادها وافرازاتها العالقة في الذاكرة الحيّة للشاعر ، فان ( سالميتي ) تعتبر بحق رحلة وجدانية في تخوم الروح المعمدة بالاستلاب والاغتراب  .  
ملاحظة : ابّان اشتغالنا على هذا الموضوع خرجت الى النور مجموعة شعرية جديدة للشاعر وليد هرمز عنوانها ( رُباخ) ، ربما سنعود لتناولها في مناسبة قادمة .

**شاعر عراقي
   السويد