الصفحـــــــة الرئيـســـــــــة

الأحد، 27 مايو 2012

تكست - العدد 17 - هاينريش هاينه بعيني جورج لوكاتش ترجمة ماجد الخطيب


هاينريش هاينه بعيني جورج لوكاتش

الشاعر بين"حمار بلعام" و"ثور فالارس"

ترجمة ماجد الخطيب

الكاتب والمفكر الهنغاري الكبير جورج لوكاتش، حاله حال الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه، يكنّ احترماً وتقديراً كبيرين للشاعر الألماني هاينريش هاينة. وإذا رأى نيتشه في هاينه"مكراً" أهّله لأن يكون فنان اللغة الألمانية الأول، فأن لوكاتش رأى في "سخرية" الشاعر ذروة نضج أدبي وفكري لم يبلغها أي شاعر ألماني.



ففي كتابه المهم" واقعيو الأدب الألماني في القرن التاسع عشر" يخصص لوكاتش نحو 60 صفحة للحديث عن أدب هاينه وتأثيره الكبير على الأدب الأوربي عموماً، والألماني خصوصاً، في المرحلة الانتقالية بين عصري الأدب التقليدي والحديث في أربعينات القرن التاسع عشر. وفي هذا الفصل الذي أكمله لوكاتش عام 1935(1) يهاجم الكاتب الشاعر هاينة بلا رحمة بسبب هشاشة موقفه السياسي والشخصي في تلك الحقبة، وتردده في الانتقال تماما إلى صفوف"الثورة البروليتارية"، لكنه يطري بلا حدود شاعرية هاينة ورهافة حسه وغنائيته، و يقِّيم عالياً موقفه النقدي من الشعر الكلاسيكي والحركة الرومانسية، ويرى في"سخريته" أساس المرحلة الانتقالية التي قادها هاينه وأدت إلى انطلاقة مرحلة الأدب الحديث.


يصف هاينه نفسه في"الاعترافات" على أنه آخر ملوك الشعراء الرومانسيين الذي تخلى عن تاجه وصولجانه عن وعي كي يعبّد الطريق أمام الأدب الحديث. يقول: معي أغلقت أبواب المدرسة الشعرية الألمانية الكلاسيكية، وفتحت في نفس اللحظة أبواب المدرسة الشعرية الألمانية الحديثة. وكتب لوكاتش أن وصف هاينه لنفسه كجسر بين العوالم الشعرية المختلفة صحيح، إلا أن المدرسة الألمانية الحديثة جنحت في طريق آخر لم يسبر الشاعر غوره في تلك المرحلة. فالأدب الألماني الحديث، حسب لوكاتش، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي بعد وفاة هاينه، وقع في فخ "المبالغة بالتجريد"، راودته "الكثير من الأوهام"، وافتقد إلى" النقد الملموس"، وهي ذات التهم التي وجهها هاينة إلى الحركة الرومانسية المتأخرة.
لا يمكن فصل تطور ونضج الشاعر هاينة الفكري عن مجرى التطورات التي شهدها التاريخ الألماني في تلك المرحلة الانتقالية. ولهذا نجد هاينه يقول" يبدو أن  نبوءتي القديمة عن الفترة الكلاسيكية، كمرحلة بدأت في مهد غوته، وستنتهي في قبره، قد تحققت. فالفن الحالي يجب أن يزول لأنه تجذر في الحكومات العاجزة القديمة وفي الماضي الامبراطوري الروماني"المقدس"(....) لأنه يتعارض، بكل بقاياه القديمة، مع الواقع. ولهذا فقد كرس هاينه أدبه، شعراً ونثراً، للنضال ضد المرحلة القديمة، وبالضد من الأدب الكلاسيكي، وضد الميراث الروماني أيضاً.




انتقد هاينه "الرجعية الرومانسية" في أربعينيات القرن التاسع عشر وكتب أن تأليههم للتاريخ الألماني هو تأليه لتاريخ بائس وعبودي، وان إطراءهم للعصور والوسطى والكنيسة الكاثوليكية، لا يعني سوى البحث عن الأدب البديل في أروقة الفاتيكان. وكان من الأوائل الذين فسروا مبدأ "غريزة وحدة الوجود" الرومانسية على أنه نزوع خفي إلى الكنيسة الكاثوليكية الأم، وتوق قومي ظاهر إلى وحدة الوجود الألماني القديمة. هاجم هاينه "الرومانية الساخرة" أيضاً واتهمها بالمراوحة في مكانها. صنع من "سخريته"، مبدءاً لتحطيم أوهام الناس عن الواقع المنسجم الذي تدعيه الكنيسة والسلطات الاقطاعية للعالم، بل بلغ في تهكميته مبلغ "الكلبية" بسبب رغبته في التعبير عن تمزق الواقع، وبهدف تحطيم كل بقايا العصور القديمة التي تدعي انسجام الإنسان مع نفسه ومع هذا الكون.
يقول فريدريش أنجلز" يرفع هاينه حماس المواطن عن قصد كي يعيده  بعد ذلك إلى حضيض الواقع مجدداً. ولهذا فأن سخرية هاينه تثير فيه شعوراً بالـ"غضب"، في حين تبعث سخرية الشعراء الآخرين(الرومانسيين) فيه شعوراً بالاطمئنان وتبقيه أسير أوهامه.



يخاطب هاينه شعراء الرومانسية الاعتذارية:




انفخ، وبوِّق وأرعد يومياً،
إلى أن يزول كل إزعاج-
انشد بهذا الاتجاه فقط،
ولكن ابق شعرك،
أكثر ما يكون عمومية!



تخطت سخرية هاينه سخرية الرومانسيين التقليديين، وأضفت عليها مبدأ التحرير من الوهم، إلا أنها، وعلى أية حال، نبعت من الحركة الرومانسية ذاتها. وكان اوغوست فيلهلم شليغل(1767-1845)(2)، أحد مؤسسي الحركة الرومانسية الألمانية، قد عرف"السخرية" على أنها الانحلال الذاتي للمثاليات"، وكتب كارل فيلهلم فيردناند زولغر(1780-1819) (3)أنها "عدمية الفكرة نفسها"، في حين اعتبر جورج لوكاتش سخرية هاينة "عقيدة تحرير من الوهم" ناجمة عن "الذاتية القصوى" التي وضعت الشاعر على قمة التحولات التي جرت في المرحلة الأدبية"الوسيطة"التي سماها الشاعر نفسه بالمرحلة الانتقالية.



فشكل هاينه الشعري، حسب تقدير لوكاتش، هو"الذاتية البالغة"، أو القصوى، التي تعبر عن حركة المتناقضات في عقل الشاعر"الأنا". وتكتسب هذه التناقضات حيويتها، وتتفاعل مع بعضها، كما تتحرك وتتفاعل في ذهن الشاعر.
في قضية "السخرية" التي ميزت هاينه عن معاصريه من الأدباء، وخصوصاً عن الرومانسيين، بدا أن الشعراء بحاجة إلى نهيق"حمار بلعام" كي يستيقظوا من سباتهم الطويل. فقد كانت الحقيقة أمامهم، لا يسترها رب ولا ملاك، لكن عيونهم بقيت معصو بعصّابة كنيستهم الكاثوليكية، وتوقهم إلى الماضي الألماني"العظيم"، وتشبثهم بالحكايات الخيالية والأغاني الشعبية. وقصة بلعام تكشف أن حماراً يمكن أن يكون أذكى من نبي يعّول عليه الرب في كسب الناس إلى الإيمان.
وبلعام هذا، وحماره الناطق، نبي ورد ذكره في كتاب العهد القديم. أراد بلعام التوجه على حماره إلى شعب إسرائيل ليوجه كلاماً جارحاً لهم. وحينما عرف الرب بنوايا النبي أرسل ملاكاً ليوقفه عند حده. كان الملاك يقطع طريق الحمار دون أن يراه بلعام، يستدير الحمار على عقبيه ويتلقى بالتالي لعنات وضربات النبي. تكرر المشهد عدة مرات وشبع الحمار ضرباً، وهنا منّ الله عليه بنعمة الكلام فنطق الحمار وعاتب النبي على شدته وعماه، وعندها فقط فهم بلعام أن الله يريد أن يردعه عن انتقاد بني اسرائيل.




وإذا كانت سخرية هاينه اللاذعة عقيدة الحديث في أدب المرحلة الانتقالية، والمرحلة اللاحقة، وسبب نقمة الدولة البروسية عليه، فأن تأسيس القصيدة الحديثة على حكم التناقضات الجارية في هذا العالم، كان مولد الأدب الألماني الحديث في تلك الفترة. ويعبر لوكاتش عن قناعته بأن الشكل الخاص الذي ابتكره هاينه ليحرك فيه هذه التناقضات، كان سر نجاحه الشعري وتحوله في أربعينيات القرن التاسع عشر إلى أكثر الشعراء الأوربيين شعبية.
إن كشف الغطاء عن التناقض ليس قضية فكرية، كما يقول هيغل، لكن تصوير الأجواء التي تتحرك فيها هذه التناقضات، هي القضية في واقع الأمر. وكل من هاينريش هاينه واونوريه دي بلزاك توصلا إلى شكل خاص بكل منهما تتحرك فيهما التناقضات بحرية حسب رأي لوكاتش. والأخير يرى أن بلزاك آخر الشعراء الأوربيين، من ذوي الأهمية العالمية، الذين عاصروا هاينه وكن كل منهما للآخر احتراماً خاصاً. ومع هذا الشكل الابداعي انحسر الشكل القديم"الاعتذاري" وما عاد بإمكان الشكل القديم تجاوز الشكل النقدي الجديد. مع ملاحظة أن لوكاتش يقول أنه اتى على ذكر بلزاك فقط للإشارة إلى مكانته في تطور الأدب الأوربي. إذ ظهر هاينه وبلزاك من رحم الرومانسية في عشرينيات القرن التاسع عشر، استقى كل منهما الأهم والأجمل من الميراث الرومانسي، وتجاوز كلاهما الرومانسية. اكتفى بلزاك بعرض حركة المتناقضات في الواقع، لكن هاينه منحها أعمق حركة ممكنة بالعلاقة مع حركة المتناقضات في المجتمع.





تغفو الغابة، والنهر ينام بإطمئنان،
مغرق بضوء القمر الناعم؛
يعلو فجأة أزيز. هل كانت رصاصة؟
ربما أنه صديق أعدم؟




المهم في هذا الشكل النقدي الجديد هو أن التناقضات تبدو فيه كتناقضات تناحرية وليست منسجمة، أو متناغمة، كما يراها "الاعتذاريون". حطم هاينه شعرياً كل مما كان يبدو في انسجام زائف، وكتب شعراً يبحث عن الجمالية في حركة التناقضات، ويسعى إلى الحديث من خلال التعبير عن هذا التناقض  بلغة الألم والحزن والمشاكسة التي تنبثق بالضرورة خلال"المرحلة الانتقالية" وتحطم الأوهام السائدة والانسجام الظاهري الزائف.



صوّر الكاتب الروائي المعروف فريدريش هيبل(4)، الذي عاصر هاينه، عالم التناقضات في شعر هاينه كالآتي: خلق هاينه شكلاً في الشعر يحول أكثر النبرات يأسا، في تعبيرها عن هذا العالم المشحون بالتناقض، إلى همسات موسيقية مؤثرة. وتذكرنا مجموعة أغانيه  بخوار ثور فالارس النحاسي الذي يجعل صرخات العبيد، الذين يجري شيّهم أحياء في جوفه، منسجمة مع صيحات البهجة التي يطلقها الملك. هنا يستوي المعذَّب والمعذِّب في شخص واحد.




و فالارس(570-550 قبل المسيح) في التاريخ الهليني القديم هو ملك اكرغاس الواقعة اليوم في صقلية الايطالية. اشتهر كطاغية دموي وسادي استغل احتفالات بناء معبد سيريس(إلهة الخصب) كي يرتكب مجزرة بحق شعبه استخدم فيها المرتزقة والمجرمين.



وثور فالارس عبارة عن ثور كبير نحاسي، من أعمال الفنان القديم بيريليس، كان فالارس يحبس خصمه في جوفه، ثم يشعل النار تحت الثور كي يجري شيّ الإنسان على نار هادئة. ويقال أن الصرخات التي يطلقها المحكوم بالشيّ كانت تنطلق من منخري الثور مثل الخوار، وكان الملك يطلق خوار لذة، كالذي يطلقه الثور عند الجماع، وهو يستمتع بشيّ ضحيته. والمفارقة التاريخية في الأمر هي أن الفنان بيريليس نفسه كان أول ضحايا حفلات الشي في قصر الملك فالارس.
تفرق حيوية حركة المتناقضات عند هاينه شعره عن الشعر الذي سبقه، وتعبر عن رؤيته للثورة كمخلِّص وحيد للناس من عذابات الواقع القائم على التناقض. وكما برز ذلك أكثر خلال فترة مرضه فهذه التناقضات عند هاينة غير قابلة للحل، لكنها تبقى عناصر سلبية دافعة بشكل مستمر إلى التمرد. هي عناصر سلبية متفائلة، حسب رأي لوكاتش، لا تنسجم مع تشاؤم التناقضات"الاعتذارية" للرومانسيين؛ بل أنها صيحة ضد" مصير الإنسان الأبدي غير القابل للتغيير".




المواقع التي فقدت في حروب التحرير،
أتمسك بها مخلصاً منذ ثلاثين عاماً؛
أحارب بلا أمل، في أن أنتصر،
وأعرف أنني لن أعود سليماً إلى الوطن.




في تعامل هاينه مع الاسلوبين الدرامي والملحمي يرى لوكاتش عن حق أن هاينه آثر الابتعاد عن هذا النمط من الكتابة، رغم كتابته لمأساتين في مرحلة شبابه، لأسباب اجتماعية عميقة. لم يتجنب الشاعر الاسلوبين بسبب عدم قدرته على تصوير الإنسان الحي وحياته، وإنما لأسباب تتعلق بفكره وقضيته. كان يقدر الملحمة والدراما، ويحترم صنّاعها، لكنه كان يحاول تجنب واقعيتها بالمعنى التقليدي.





كان اونوريه دي بلزاك في فرنسا، وتشارلس ديكنز في انجلترة، يكتبان الدراما والملاحم، لكنهما اكتفيا، إلى حد ما، بتصوير التناقضات الاجتماعية تصويراً واقعياً. واهتم غيره من الكتاب الألمان في الكتابة بهذه الطريقة إلا أنهم بقوا أسرى الواقع الألماني المزري، في حين تعذرت على هاينة الكتابة بهذا الاسلوب الذي وصفه بالـ"مفارقة التاريخية".





لم يكن ذلك من هاينه ضعفاً شعرياً، أو هوساً شخصياً، وإنما أن شكله الأدبي الجديد،  الساخر، لا ينسجم مع الكتابة  بهذين الاسلوبين، ولا مع أهدافه الاجتماعية. وحينما كتب"أتا ترول" و" ألمانيا، حكاية خيالية شتوية" استخدم السخرية البالغة للتعبير عن التناقضات التي يتناولها بالتحليل، واستخدم شكل"الذاتية القصوى" في كتابة "صور رحلة". بمعنى آخر انه استخدم الشكل الألماني الوحيد الممكن للتعبير عن التناقضات الاجتماعية بالشعر.




فهم هاينه أيضاً الضرورة التاريخية لهذا التطور في الحركة الشعرية وفي الحركة الأدبية الألمانية ككل. وكتب لهذا: "الفلسفة والشعر هما البراعم الأساسية للروح الألمانية، لكن زمن التفتح هذا قد انتهى، وانتهى معه كامل"الهدوء الشعري" الذي ميز الأدب الألماني". واعتبر لوكاتش الدراما والملحمة من أشكال الأدب"المخصية" التي يرفضهاهاينه في إطار رفضه للقديم والمهادن. فهو كشاعر"منفذ وصية الشعر الرومانسي الألماني، والشعر الكلاسيكي"، ويتفق هنا في موقفه من الشعر مع موقف كارل ماركس الفلسفي القائل "إن الغاء الفلسفة غير ممكن دون تحقيقها، لكن تحقيقها أيضاً غير ممكن دون الغائها". ورغم مسعى هاينه لتحطيم أشكال الشعر الألمانية القديمة بالسخرية، ورغم عرضه التحريضي للتناقضات في الحياة، لم يقع في فخ التطرف الأدبي في ذلك الزمان، فلم ينقلب رومانسياً فوضوياً يريد تحطيم الشعر الألماني ككل، و لم ينمسخ  شاعراً "اعتذارياً" سلبياً يمجد الشعر التقليدي.




انبثق شعره عضوياً من الشعر الرومانسي، لكنه أعلن القطيعة الكاملة مع كل ما هو سطحي ومبتذل في الإرث الأدبي الرومانسي. كان نهوض الحركة الرومانسية رد فعل على الاحتلال البونابرتي والاضطهاد الفرنسي، وبالتالي تعبيراً عن الروح القومية الألمانية المقهورة، وهو ما أفعم كامل أدب تلك المرحلة بالمشاعر القومية. لكن هذه الحركة، التي كانت تقدمية يوماً، أصبحت رجعية مع مرور الوقت وما عادت "أناها" الظاهرة وسخريتها الاعتذارية تستجيب لتطلعات شاعر وناقد ومؤرخ وفيلسوف مثل هاينه.



حسب رأي لوكاتش كان هاينه يصور العالم في رحلته الشعرية بطريقة الديالكتيك التراجيدي الساخر، مستخدماً الصور الشعرية والتناقضات وكل ما هو جميل في متناول يده، بينما كان ماركس يحاول تفسير التاريخ على أسس الديالكتيك المادي. وكان هاينه معرضاً دائما إلى الوقوع في خطر تحول مشاعره الحقيقية والعميقة إلى قصائد عاطفية ومتكلفة، وإلى قصائد سياسية مؤدلجة، لكنه كان واعياً تماماً لهذا الخطر، وكان يتجاوزه دائما بالسخرية اللاذعة، وهي سخرية في محلها أولاً، وعميقة في معناها ثانياً.



لا يتجنب لوكاتش في كتابه ما أثير من جدل حول موقف هاينه من الدين، وخصوصاً في أيام مرضه الأخيرة التي كان يتمنى فيها الموت خلاصاً من عذاباته. ويرى أن موقف هاينه من الدين إنما ينطلق من موقف معلمه هيغل، لكنه يتجاوز سيد المعرفة الألمانية آنذاك ليقف موقفاً معادياً وصريحاً من الدين ككل. ولم يكن ذلك ضد الديانة اليهودية التي نشأ عليها فحسب، وإنما ضد الديانة المسيحية التي أنقلب إليها أيضا.






كان هاينه ينظر إلى تاريخ العالم ككل كتاريخ للنضال بين الروحانية والحسيّة، كصراع بين الفلسفة والدين، وبالتالي كصراع القديم مع الجديد. ورفض الشاعر قطعيا، في كتاباته بعد 1848، التعليقات التي تحدثت عن عودته إلى الدين و"عودته" الأخيرة إلى الهدى. وجسد هذا الاحتجاج في مقدمته لكتاب"رومانسيرو" رافضاً التحليلات التي تحدثت عن عودته إلى أحضان الكنيسة، أو إلى المعبد اليهودي، بتأثير مرضه ويأسه وخوفه من الموت.




كتب هاينة في "الاعترافات": أنا رجل مسكين، ما عاد سليماً، من الناحية الصحية، بأية حال، أو بالحقيقة أنه مريض جداً. ولكان فضلاً كبيراً عليّ لو وجد شخص ما في السماء يعنى بي، ويستمع إلى حديثي المكرور عن مبلغ آلامي، وخصوصاً في منتصف الليل، حينما تخلد ماتيلده إلى الفراش".(5)





وكان أكثر وضوحاً و"كلبية" كعادته في موقفه، وهو في شدة المرض، حينما استقبل صديقيه أدولف شتار و فاني ليفالد. إذ نقل الأخيران لاحقا عن هاينه أنه قال: لا تفكروا أني بلا دين. لو أن شيئا من الرماد نثر على جروحي الأليمة المحرقة، وتخلصت بعدها من الآلام، ألا يستوجب ذلك القول أن له نفس المخدِّر للدين؟ هناك علاقة بين الأفيون والدين، فكلاهما يجعلان الإنسان يحلم(...) وحينما أعجز عن تحمل آلامي أتعاطى المورفين، وعندما أعجز عن القضاء على أعدائي اتركهم لله"؟ ثم يبتسم ويضيف: ولكنني على أية حال افضل الاعتماد على نفسي في توفير اعالتي".(6)




وينقل الفرديد مايسنر عن صديقه هاينه قوله أنه يتمنى لو أنه يستطيع المشي على عكازين كي يستطيع زيارة الكنيسة كأي متدين صالح. يسأل مايسنر مستغرباً: إلى الكنيسة؟ فيجيب هاينة" طبعاً إلى الكنيسة، إلى أين يذهب الإنسان المقعد إذا لم يكن ذهابه الى الكنيسة. بدون عكازين كنت سأتجول في الشوارع الجميلة وأرقص في الـ"بال مابيل" (7). يرد مايسنر: وتسمي هذا تدينا؟ يجيب هاينه: نعم، نعم ديانة تجديفية!(8)




ما أكثر حسدي لهذا الحظ،
أتمرغ لسنوات سبع
بالعذابات المريرة على الأرض
وأعجز عن الممات.

أه يا إلهي، اختصر عذابي
وعجل في اللحد منامي،
سيد العارفين أنت،
وتعرف أني لا أتقن فن الشهادة.

آه، رحمتك يا إلهي، وصفحك،
 جريرتك- وأغفر لي دهشتي-،
أنك نفخت الروح بأعذب الشعراء،
ثم سلبته حب الحياة.

بلّد الألم فيّ روحي المرحة
وألقاني في غمرة الميلانكوليا،
وإن لم ينقطع هذا المزاح،
فسأنتهي كاثوليكياً صالحاً.

أعول في أذنيك إذن!!
كبقية المسيحيين الطيبين_
أه يا للبؤس!!
أنت تفرط بأعذب الساخرين.
(من قصيدة مزمور)








(1)      أنهى لوكاتش الكتاب عام 1950 بعنوانDeutsche Realisten Des 19.jahrhunderts. واعتمدنا هنا على النسخة الأصلية الصادرة دار"أوفباو فيرلاغ" البرلينية سنة 1952.
(2)           August Wilhelm von Schlegel    من مواليد بون(1767-1845)
كاتب ومؤرخ أدبي ومترجم وعالم هنديات، يعتبر من مؤسسي الحركة الرومانسية الألمانية.
(3)           Karl Wilhelm Ferdinand Solger( 1780-1819)
عالم لغات و فيلسوف ألماني يحتسب على المدرسة الفلسفية المثالية الألمانية.

(4)           Friedrich Hebbel(1813-1863)

كاتب روائي ألماني من القرن التاسع عشر. من أهم رواياته "ماريا ماغدالينا" 1843 و" هيرودوس واناماريا" 1848.

(5)           انظر كتاب لوكاتش في (1) ص 118

(6)           نفس المصدر ونفس الصفحة

(7)           Bal Mabille دار للرقص والموسيقى بباريس.

(8)           نفس المصدر في (1) ص 119

 

 

 


 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق