الصفحـــــــة الرئيـســـــــــة

الأحد، 25 مارس 2012

تكست العدد 17: قصص قصيرة جدا- عراء الشيخوخة - زيد الشهيد


قصص قصيرة جداً

عَراء الشيخوخة

زيد الشهيد

(1) فرار الغزلان

هربت غزلانُ الأعوام عن ناظريه واستحالت أشباحاً . فِلولاً يراها تتبعثرُ على شاشةِ الذاكرةِ الشاحبة ؛ وهو الصاغرُ العاجزُ عن الإمساكِ بها ومنعها من الابتعادِ عن حقولِ الآمال التي تمنّاها ملازمةً لمسيرته في الحياة .. هربت ولمّا يزلْ يشعر أنّه لم يرَ من الدنيا شيئاً ، ولم يُشبع عينيه بما يتجسَّد من تبدّلات .. يتلمّس الأشياءَ تتغيَّر في بهرجةٍ وابتهاج ، والأجيال الحاضرة أمام ناظريه تنهضُ من تحت ناصيةِ أعوامه الستين متهاديةً على خميلةِ الجديدِ من المُتحقََّق : قمصانٌ مهفهفة ، وبناطيل جينز ضيقة . playstation و internet ، موبايل وجِل ( يومَ كان في مثلِ أعمارِهم كانت النحافةُ تقارع طولَه الفارع . القميص بمصاحبة البنطلون لا يمثلان إكسسواراً لشاب يُفترض أن يعيش طائراً يفعمه الجذل ويغمره الابتهاج إنما ثياباً خاطها خياط مغمور في قيصرية متهالكة . وآن وقف أمام المرآة بعد ارتدائها شاهد شابّاً شاحباً ، مُصفرّاً ، تعيساً لا يمكن إلا أنْ يُثير التفكّه في عيون الآخرين ، بيدَ أنّه آثر تقبّل الحال . فليس له إلا أنْ يرضخ لرحى الفقرِ تسحقه ، ولأنيابِ القهر تمزِّق تطلعاته ) .. يضرب بقبضته الراعشة على فخذه الضامر : آخ ، لو ينتهي هذا الإرهاب اللعين ! لو يعود المخدوعون بعودة الإسلام يافعاً كما قبل أربعة عشر قرناً ! لو يرفعوا الرؤوسَ من رِمال الوهمِ ويبصروا الدنيا كيف ترفل على بساطِ السماحةِ والنقاء ! لو ....... أوه ، يا إلهي ! كيف هرَبت أيامٌ ستحسبُها علينا يومَ حشرك ؟ ( يتذكر أنّه يوم كان في أعمار هؤلاء - الموهومين بجنان لا وجود لها إلا في أذهانهم - يصاحب زمرةً من الشبابِ يَسمعَهم يتحدَّثون عن الديالكتيك والحتميّة لسيادة الطبقة العاملة مسنودةً من الفلاحين حديثاً ببغاويّاً وهو يرى واقعَهُ بلا عمال ولا فلاحين ، فقط بطالةٌ وعجز وفاقة وأميّة ترفل على ثرى العماء العميم فينتابُه شعورٌ بالغثيان ، وترتسمُ إزاء عينيه شعوباً بائسةٌ ذليلةٌ متخاذلة لن تخرج من نفق العتمة مطلقاً . ) .

يجهش منتحباً ، ويتوقف يائساً ..

يمسح دموعاً دافقة على خدّيه الأعجفين مُتلمِّساً غزلان الأعوام تهرب من ناظريه مستحيلةً أشباحاً .. وهناك !

هناك في الشمال ، يرى أمَماً تعيش الرفاه والجذل والابتهاج بينما أمّتهُ يسيل لعابُها على سعادتِهم كما يسيلُ لعابُ كلاب متضورة حِرماناً على عظامٍ تكسوها الشحومُ اللذيذة .

(2) سليل التهالكات

أسعده رؤية حفيده يفوه بأولى المفردات التي تضعه على أولِ درجةٍ من سلَّم الحياة ، وابتسمَ لسماعِ الحفيد يخاطبه بمفردة ( جدّو ) والجةً مملكةَ سمعِه نغمةٌ تسكب عذوبةً في فضاء روحه غائرةً عميقاً إلى الدهاليز القصيَّة ، إلى أولِ عامين يجتازهما من عُمرِه ( يستعيد الآن بذاكرةٍ متوهجةٍ كلمة بابا التي كان ينطقها مخاطباً أبيه ، فيروحُ الأبُ يتلقَّفه بابتسامةٍ تعكس فرحَ عالَمٍ من الانشراح العارم ، وتمتد يداه العظيمتان ترفعانه وتقذفانه في الهواء ثم تستقبلانه بشوقٍ جارف كأنه شوقُ تربةٍ ظامئة لغديرِ ماءٍ دفيق . يضمُّه إلى صدرِه حاصداً سنابلَ فرحٍ لا يُقايضُها بأموالِ الدنيا كلِّها . يُشبعه بالقُبل ويغترفُه باللهفة ، إذ يرى فيه الأماني التي يُريد والمستقبل الذي يروم ) .. مُفردة " جدّو " التي بقدر ما يشعر أنها تفجِّر في قلبه الحبَّ للحفيد فإنها تشيع في روحه حقلاً من الألم الساحق الماحق وفضاءً من اليأسِ المرير القاتل . فالذي سيأتيه من قابلات الأيام لا توحي بغيومِ الطمأنينة تدرُّ مطرَ الهناء ونسمات البهجة ، ولا تزرع على الدرب الطويل ورودَ تحقّق الرغبات ونيلِ المسرّات . فأمّةٌ يعيشُ في ثنايا خطوها لا تبغي الخروج من خيمة الظلام ولا تسعى لمعانقة النور . فقط تمارس دس رأسها في رمال الماضي الميت ويتلذذ أفرادها بتعذيبها من قِبل متسلطين لا يُفكرون إلا بأنفسِهم ( أراده الأبُ طبيباً يتباهى بأنَّ له ابناً يخدم الإنسانية . يتعذَّب لعذابِ المسحوقين ويتألَّم لألمِ المَرضى فيجدُّ جِدّاً يخلقُ تميّزاً يرفعُ من خلاله رايةَ بلادِه عالياً . لكنَّ الحروبَ المتتاليةَ والبغضَ الكريه والأطماعَ المتناسلة وهدرَ المال العام وضياعَ الفرص الكبيرة لانتشال البلاد من مستنقعِ الإعاقةِ المزمنة سحقت أماني الأب ) تركت الابنَ نزيلَ اليأس الكامد . الابن الذي غدا اليوم جّدّاً يحاصرُه الإرهابُ من كلِّ مَكان وتلاحقه براثنُ الفَساد أنّى توجَّه لتحطم لديه أيَّ أملٍ يتمنّاه لحفيدِه الذي لا يرى أمامَه درباً منفتحاً كما يأمله بنو البشر الذين ركبوا قطارَ النور مروراً بمحطّات الجذل وصولاً لحديقةِ العيشِ في دنيا الجَّمالِ التي بلا حدود .

(3) وباء الوهم

لا شيء أمامه سوى الفواخت تتَّخذ أغصانَ سدرةِ حديقةِ بيته مكاناً لتفجير لوعتِها وحنينِها لأخواتٍ ضيَّعتها الأقدارُ ونأت بها مرارةُ الزمن . ولا أنيس سوى الظلال الميتة تستقبلُه حالما تترك قدماه العتبة التي تسلِّمه للحديقةِ حيث يلجأ نفضاً لثقلِ ساعاتِ العزلة في بيت غدا كينونةً دائمة هجرتها زغاريدُ السرور يوم غادرها الأبناءُ فاستحالت بنظرهِ مكمنَ أوجاعٍ ومقبرةَ ترانيم .

لا شيء سوى ملامح تلك التي قضت معه عقوداً من الأعوام ثم رحلت وعلى شفتيها نصيحةٌ أو رجاء أنْ لا يبقى قابعاً في البيت أسيرَ الهمومِ والهواجس بل الخروج إلى طُرقات الله حيث الذكريات الجميلة التي صرفاها زوجين حميمين أطلقا الأبناء طيوراً في فضاء الحياة الرحيبة وواصلا مساراً تتَّخذه الإنسانيةُ ولو على مضض .

خرج على هَدي دربٍ يقول له تحرَّك بما تملك ساقاك من قوَّةٍ يعينانك على السير ، وما تبقى في قلبك من رغبةٍ في البقاء .. مرَّ من أمامِ مدرسةٍ تركها تلميذاً في المرحلة الابتدائية يوماً ، وجاء إليها أباً يقود ثلاثة أولادٍ عاماً بعد عام ليواصلوا مشوار العلم والمعرفة ، ثم دخلها وهو يحثُّ حفيداً على الالتحاقِ مع أقرانٍ له في عمره .. مرَّ من أمامِها اللحظة فكانت بلافتةٍ مهشمةٍ وقد زال طلاءُ تاريخِ تأسيسِها الذي قرأهُ مراراً وهو يشير إلى العام 1958 . لم يسمع أناشيدَ التلاميذ التي كانت تصدح آنذاك بحبِّ الوطن وطلب العلم وحياكة خيوطِ الشمس سعياً لإدراكها .. لم يسمع " عش هكذا في علوٍّ أيها العلمُ " ، ولم تتناهَ إليه قرقعةُ أقداحِ الألمنيوم يحملُها التلاميذ مع كعك المعجَّنات كفطورٍ صباحي فتذكَّر أنَّ سوسةَ الفسادِ تعيثُ في ثمارِ نخلةِ العلم التي كانت فارعةً ، سامقةً ، عذراء .. أطلق حسرةً طويلةً كلسانِ ريح ، واستدعى دمعتين تركهما تتدحرَجان على خدّيه المتغضنين .

راح يواصل سيرَه بعينين تسوحان لهفةً إلى ماضٍ بعيد ورغبةً في غدٍ واعدٍ رحيم . واصل ! حتى أدرك سوقَ الخضار الرئيسي . دخله ! وكان عليه أنْ يتملّى الماثل فلم تتكحَّل عيناه بما يسرُّه من صورٍ وما يُبهجه من تعامل .. رأى أساليبَ عرض الخضار والفواكه بسلالٍ متهرئة وأوانٍ معدنية قذرة هيَ ، هيَ التي كان يراها وهو فتى ، وهو شاب ، وهو كهل ... هي ، هي مجاميعُ الذباب تتطاير أو تحوم أو تحط فوق الطماطة والباذنجان والباميا والبصل والتمر والتفاح والبرتقال والرمان ... هوَ ، هو ذلك الذي يبيع اللحوم ويتمخَّط ويبصق أمام الزبائن منهمكاً بتقطيع شرائح اللحم أو منهالاً بالساطور على عظم يبغي تهشيمه ... هوَ ، هو بائع الرقّي يرفع عقيرته لإغراء المارّة ثم يروح ينشغل بحك باطن قدمه الحافية الموحلة أو المتربة بنصل السكين الذي يفتح به الرَّقيّة المُشتراة ..

مُنسلاً يتركُ حشودَ المتسوِّقين المتزاحمين ، مشحوناً بوباء الوهم في مجتمع ظنّه يوماً أنْ سيمسك صولجان الحضارة ويرفل على إيقاع العيش الحيي بلافتة يرفعها حبّاً بالنظافة وهَدياً بالنقاء .

العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق