الصفحـــــــة الرئيـســـــــــة

الاثنين، 19 مارس 2012

تكست العدد 17: الوهـم - قصة قصيرة - عيسى عبد الملك

قصة قصيرة

الوهــــــــــــــــم

عيسى عبد الملك

في ليلة معينة، من كل أسبوع، يدخل غرفته، يوصد الباب، ويختلي بنفسه حزيناً.. أثار ذلك انتباهها، ثم شكوكها.. لم يكن يفعل ذلك من قبل، منذ أن تزوجته. منذ شهرين فقط، حصل هذا.. يجب ان تعرف. عزمت على ذلك، هي بطبيعتها هكذا. اخذت تستيقظ مبكرةً، تفتش ثيابه، قطعةً قطعة عند عودته من العمل، تشم ملابسه، تستنطقه محاولة إضفاء شيء من اللباقة، وهي تسأله.

بدا ذلك يضايقه .. هذه المرأة التي رافقته ثلاثين عاماً تغيرت.

- ما بك يا أمرأة؟ يسألها.

- أنا، لا شيء .. ترتبك ثم تغير الموضوع.

سلوكه لم يتغير، لم يتأخر عن موعد مجيئه إلى البيت، ولا عن موعد خروجه، فما الذي حصل؟

- تعال .. قالت لأبنها، إقرأ لي أسماء المتصلين الدائميين وأوقات أتصالهم، وأخرجت جهاز زوجها النقال من جيبه، هيا قبل أن يخرج من الحمام.

أرتبك الصبي قليلاً دون أن يجد لذلك تبريراً، أتشك بأبيه؟

- ليس هناك من يتصل باستمرار وكل الاتصالات عادية وأكثر الأسماء أعرفها ..

لم تقتنع بذلك ((الولد سر أبيه)) تمتمت بخيبة. تولت الأمر بنفسها، صارت تعرف الليلة والساعة التي يختلي فيها بنفسه.. في صباح تلك الليلة المعينة فقط، تجمع أعقاب السكاير ((لقد عاد للتدخين بعد هذه السنين)).. دخل غرفته، أغلق بابها ((إذن حلت ساعة الخلوة)).

تحسست جيبها، فأطمأنت، نقاله معها والهاتف الأرضي مقطوع:

مدت رأسها.

- تحتاجني بشيء؟

- لا، فقط أريد أن أختلي بنفسي قليلاً.

- أدري، فالغرفة صارت صومعة، قالت بشيءٍ من الغلظة واغلقت الباب.

جلس على كرسيه، فتح التلفاز على محطة معينة، وراح يتأمل الصورة وينفث دخان سيكارته.. مقدمة البرنامج تحاور فناناً مغترباً، هو يعرف هذا الفنان، علاقة من نوع ما ربطته به، لكنه لم يكن يعير انتباهاً للفنان ولما يقول، فهو يتابع مقدمة البرنامج، وجهها، حركاتها، ابتساماتها، ملابسها، شعرها الأثيل الأسود المنسدل على الكتفين وأحياناً يصحح أو يضيف جملة بصوت عالٍ.

فتحت عليه الباب.. جلست جنبه.

- ما الذي يعجبك في هذا البرنامج؟ فهم موزعون في كل أرجاء الأرض، أكبر هجرة في التاريخ يمر بها بلد، ربع سكانه لاجئون؟

- إنتِ، ما الذي يضرك منه؟

- هناك ما هو أفضل منه، البرنامج عادي ومقدمته كذلك.

لم يجبها .. ظل يراقب حركات مقدمة البرنامج بأهتمام، وهو يمتص دخان سيكارته بلهفة وينفخ الحلقات.

- ما الذي يعجبك فيها؟ ليس فيها ما يجلب الانتباه.

- كل ما فيها يجلب الانتباه، قالها من أعماقه واردف، أتغارين من صورة على شاشة تلفاز؟

- مئات القنوات .. مئات المقدمات، عجزت يا رجل، ثم لماذا هذه بالذات؟ تتصابى أفي أواخر العمر؟ راحت تمطره بالتأنيب.

- ستجعلين من لا شيء مشكلة .. هذا البرنامج يفتح لي نوافذ على العالم.

- وهي؟

- تفتح لي جروحاً نكأت منذ زمن بعيد، دعيني وبعد البرنامج أفتحي أي موضوع تريدين، ونكدي.

ضربت فخذيها بغضب وخرجت، صك صوت اصطفاق الباب أذنيه، فتأفف .. عادت وهي تقول.

- غداً أنت مدعو للغداء، أتصل صديقك أحمد، هناك مناسبة وشخص يريد أن يراك!

في القاعة انتظم المدعوون صفين حول مائدة طويلة، وضع سترته على كرسيّ خالٍ وجلس. لم يفعلها سابقاً، لكن الكرسي كان فارغاً فما المانع؟

فتح باب القاعة، اتجهت الأنظار إلى القادمة متأخرة قليلاً وكأنهم جميعاً بأنتظارها .. دخلت هادئة، باسمةً، رقيقةً، لكنها بدت تعبى. الكل توقع قدومها وينتظرها إلا هو ... نحيفة متناسقة ترتدي بنطالاً أزرقاً وقميصاً وردياً.

بحثت عيناها عن كرسي فارغ. نهض رفع سترته ودعاها.

- شكراً، أنقذتني، ابتسمت وكحمامةٍ وديعةٍ حطت جنبه وأردفت ((ربما محجوز لشخص آخر، غمره عطرها.

- وهل هناك من يستحقه غيرك؟ هيا شاركيني طعامي، وشاركته بعفوية وهي تقول.

- وأنت ماذا لو أكلته كله فأنا جائعة؟

- كلي فأنا شبعان وحقك وراح يناولها بعض قطع الطعام ويقشر بعض قطع الفواكه للوهم الذي يجلس جنبه وليس على شاشة التلفاز.

- هذا هو الكرم العراقي، يا لورا، قالت بالفرنسي لفتاة قربها وسألتني ولكن لماذا كل هذا الاهتمام؟

- لسببين، اولاً لأنك ضيفة، والثاني لأني مدمن على متابعة برنامجك الأسبوعي، فهل أنا مخطئ أم هي أنت؟

- وماذا يقول حدسك؟

- يقول أنت.

- إذن هي، أنا. وأنا مسرورة أن أجد معجباً مثلك ألتفتت إلى لورا، ((لورا، معجب من بلادي)) وأشرق وجهها.

- أنها تفتح لنا نوافذ على العالم، نرى أصدقاءً وأحباباً نبحث عنهم، قال مبتسماً.

- ونحن في الدنمارك نحبها أيضاُ، قالت لورا بجملةٍ حاولت ان تجعلها مفهومة لكنها فشلت.

- لا عليك لورا، أنا أفهم ما تقصدين قال مبدداً إحراجها، مالت عليه، وبود من تعرفه منذ زمن قالت.

- أه كم أنا متعبة.

- كيف جئتِ، أقصد أين كنت، أو عفوا لماذا أنت هنا، راح يتمتم. وببساطة قالت.

- سأشرح لك، جئت من الدنمارك إلى بغداد ومنها إلى البصرة، وصلت قبل ساعة تقريباً، لذلك فأنا متعبة جداً، فالمسافة بين بغداد والبصرة ليست قليلة كما تعلم.

كانت تحدثه، تشرح له، كأنه صديق حميم، تنهدت بعمق.

لم يعر اهتماماً لمخرج الفلم الذي لم يره منذ ثلاثين عاماً، صديقه القديم، ولا لعشرات الممثلين والممثلات والمصورين وبعض الضيوف والضيفات الأجانب، وعراقيات تغربن من زمن، تطوعن لتمثيل الفلم.

- وأنتِ، لماذا أنتِ هنا؟

- تطوعت لأمثل في هذا الفلم، فمن تسكن هنا تخاف.

سكتت قليلاً وهي تركز عينيها في عينيه وتقترب أكثر لتسمعه ما تريد قوله.

- انا خائفة، لأول مرة أشعر بالخوف.. صدقني.. لم تحدثه أمرأة بمثل هذا الصدق والعفوية من قبل، كان يصغي لما تقول وعوامل شتى تتنازعه! فجأة سألها.

- وسترجعين؟

- نعم، طبعاً أرجع قريباً وأردفت بالمناسبة كأني أعرفك أم وهم.. تذكر زوجته، آه لو رأته، تمنى ذلك من كل قلبه.

- وأنت، هل لك دور في هذا الفلم؟

إنساب صوتها يدغدغ أذنيه.

- أبداً، وحتى هذا الحضور لم يخطر ببالي، كل ما يحدث الآن صدفة.

- أريد رأيك، لم تجبني حينما قلت لك خائفة، مع أني لم أقلها لأحد من قبلك.

- الخوف يقتل الطموح وأنت شجاعة مثقفة، فهل أنا مخطئ؟

- وحدسك الذي لا يخطئ ما يقول؟ وابتسمت.

- هل تعرف أحدا في الدنمارك؟ اكتب له رسالة إن شئت.

- اعرف واحدة أسمها ... أفتقدتها منذ سنين، أفترقنا في ظروف قاسية، ظننت انها ماتت أو قتلت، منذ شهرين فقط علمت أنها تعيش في الغربة، ونطق أسمها كاملا، فهل قابلتها؟

أطرقت بوجوم، حزن عميق غطى ملامح وجهها، ثم قالت.

- هذه الرائعة يعرفها الجميع، منذ شهرين فقط كنت على موعدٍ معها لتسجيل حلقة، حينما أخبرت أنها قتلت في الليلة الماضية في ظروف غامضة وأردفت ((وأنت إذن تعرفها، لقد خسرتها أنا بالذات فهي صديقة حميمة)).

- ومن الغريب أنها تشبهك تماماً، ولكن ذلك قبل ثلاثين عاماً.

- والأغرب أنها أرتني صورةً لرجل يشبهك ولكن قبل سنين.

نودي عليها، قامت سارت بضع خطوات ثم ألتفت حدجته بنظرة أفتقدها منذ زمن الشباب، لكنه بدا محطماً تماماً .. أنتظم الجميع، جاء من يلتقط صورة للذكرى، تمنى لو كانت قد تأخرت قليلاً لكنها ذهبت.

في اليوم التالي .. عاد متعباً، مرض قديم، كان يأتيه في ظروف غامضة، عاوده اليوم يلح بشدة.. فتحت الباب على مصراعيه، برزت متحفزة، حتى ظن أنها امضت اليوم بأنتظاره خلف الباب.

- والآن، جد لي تفسيراً لهذا؟ أين وجدتها في الدنمارك، ها؟ وناولته الصورة.

كانت تقف خلفه يدها على كتفه، خصلات شعرها تتأرجح على كتفه، يا لشعرها الداكن الأثيل الذي لم يمسسه مقص، ((وإذن هي صاحبة العطر الذي غمرني لحظة ألتقاط الصورة، ما أغباني)) صاح بوجه زوجته، كيف وقفت، كيف اختفت؟ فذلك ما لم يعرفه.

العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق